كتاب : لطائف المعارف
أن الله تعالى يحب أهله ويباهي بهم الملائكة، ويستجيب دعائهم روى الطبراني وغيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي r قال: ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم ـ فذكر منهم الذي له امرأة حسناء وفراش حسن فيقوم من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته فيذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في سراء وضراء)، وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي r قالثلاثة يحبهم الله ـ فذكر منهم ـ وقوم ساروا ليلهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي) وصححه الترمذي. وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي r قال: عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته، فيقول ربنا تبارك وتعالى: يا ملائكتي ! انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله عز وجل وانهزم أصحابه وعلم ما عليه في الانهزام وماله في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي، وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه) رواه أحمد وذكر بقية الحديث. وقوله ثار فيه إشارة إلى قيامه بنشاط وعزم، ويروى من حديث عطية عن أبي سعيد عن النبي r قال: (إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر رجل قام من جوف الليل، فأحسن الطهور فصلى، ورجل نام وهو ساجد، ورجل في كتيبة منهزمة فهو على فرس جواد، لو شاء أن يذهب لذهب) وخرجه ابن ماجة من رواية مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد عن النبي r قال: (إن الله ليضحك إلى ثلاثة: الصف في الصلاة، والرجل يصلي في جوف الليل، والرجل يقاتل أراه قال: خلف الكتيبة).
وروينا من حديث أبان عن أنس عن ربيعة بن وقاص عن النبي r قال: (ثلاث مواطن لا ترد فيها، دعوة رجل يكون في برية حيث لا يراه أحد فيقوم فيصلي فيقول الله لملائكته: أرى عبدي هذا يعلم أن له ربا يغفر الذنب فانظروا ما يطلب ؟ فتقول الملائكة: إي رب رضاك ومغفرتك فيقول: اشهدوا أني قد غفرت له ورجل يقوم من الليل فيقول الله عز وجل: أليس قد جعلت الليل سكنا والنوم سباتا فقام عبدي هذا يصلي ويعلم أن له ربا فيقول الله لملائكته: انظروا ما يطلب عبدي هذا ؟ فتقول الملائكة: يا رب رضاك ومغفرتك فيقول: اشهدوا أني قد غفرت له، وذكر الثالث: الذي يكون في فئة فيفر أصحابه ويثبت هو) وهو مذكور أيضا في كل الأحاديث المتقدمة.
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر عن النبي r قال: (رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عقد فيتوضأ، فإذا وضأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الرب عز وجل للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له) وفي الصحيحين أن النبي r قال: (نعم الرجل عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ لو كان يصلي من الليل) فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلا.
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه ؟ قالوا: بلى، قال: فسفر طريق القيامة أبعد، فخذوا له ما يصلحكم حجوا حجة لعظائم الأمور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير، أين رجال الليل أين الحسن وسفيان؟ قال:
يترجل الليل جدوا
رب داع لا يرد
ما يقوم الليل إلا
من له عزم وجد
ليس شيء كصلاة
الليل للقبر يعد
صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة، ومنهم من صلى كذلك أربعين سنة، قال بعضهم: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر، قال ثابت: كابدت قيام الليل عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة أخرى.
أفضل قيام الليل وسطه قال النبي r: (أفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) وكان رسول الله r (إذا سمع الصارخ يقوم للصلاة) والصارخ: الديك وهو يصيح وسط الليل. وخرج النسائي عن أبي ذر قال: سألت النبي r: أي الليل خير ؟ قال: جوفه) وخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال: سألت النبي r: أي قيام الليل أفضل ؟ قال: (جوف الليل الغابر أو نصف الليل وقليل فاعله)، وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله! أي الصلاة أفضل ؟ قال: (جوف الليل الأوسط) قال: أي الدعاء أسمع ؟ قال: (دبر المكتوبات) وخرجه الترمذي والنسائي ولفظهما: (أنه سأله: أي الدعاء أسمع ؟ قال: (جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات) وخرج الترمذي من حديث عمرو بن عبسة سمع النبي r يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) ويروى أن داود عليه السلام قال: يا رب أي وقت أقوم لك ؟ قال: لا تقم أول الليل ولا آخره، ولكن قم وسط الليل حتى تخلوا بي وأخلو بك، وارفع إلي حوائجك .
وفي الأثر المشهور: كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه ! فها أنا ذا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل، جعلت أبصارهم في قلوبهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري، غدا أقر أعين أحبابي في جناني.
الليل لي ولأحبابي أحادثهم
قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا
لهم قلوب بأسراري بها ملئت
على ودادي وإرشادي لهم طبعوا
سروا فما وهنوا عجزا ولا
ضعفوا وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا
ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم، هو شفاء قلوبهم ونهاية مطلوبهم.
كتمت اسم الحبيب من العباد
ورددت الصبابة في فؤادي
فيا شوقا إلى بلد خلي
لعلى اسم من أهوى أنادي
كان داود الطائي يقول في الليل: همك عطل علي الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات.
وكان عتبة الغلام يقول في مناجاته بالليل: إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب.
لوأنك أبصرت أهل الهوى
إذا غارت الأنجم الطلع
فهذا ينوح على ذنبه
وهذا يصلي وذا يركع
من لم يشاركهم في هواهم ويذوق حلاوة نجواهم، لم يدر ما الذي أبكاهم، من لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب.
من لم يبت والحب حشو فؤاده
لم يدر كيف تفتت الأكباد
كان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وسط الليل للمحبين للخلوة بمناجاة حبيبهم، والسحر للمذنبين للاستغفار من ذنوبهم، فوسط الليل خاص لخلوة الخواص، والسحر عام لرفع قصص الجميع، وبروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج، فمن عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في استغفارهم واعتذارهم، صحائف التائبين خدودهم ومدادهم دموعهم.
قال بعضهم: إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم رسائل الأسحار تحمل ولا يدري بها الفلك وأجوبتها ترد إلى الأسرار ولا يعلم بها الملك.
صحائفنا إشارتنا
وأكثر رسلنا الحرق
لأن الكتب قد تقرأ
بغير الدمع لا تثق
لا تزال القصص تستعرض ويوقع بقضاء حوائج أهلها إلى أن يطلع الفجر، ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيب دعوته؟ إلى أن ينفجر الفجر. فلذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله.
نحن الذين إذا أتانا سائل
نوليه إحسانا وحسن تكرم
ونقول في الأسحار هل من تائب
مستغفر لينال خير المغنم
الغنيمة تقسم على كل من حضر الوقعة، فيعطي منها الرجالة والأجراء والغلمان مع الأمراء والأبطال والشجعان والفرسان، فما يطلع فجر الأجر إلا وقد حاز القوم الغنيمة وفازوا بالفخر وحمدوا عند الصباح السرى، وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى كان بعض الصالحين يقوم الليل، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته يا أيها الركب المعرسون! أكل هذا الليل ترقدون! ألا تقومون فترحلون، فإذا سمع الناس صوته وثبوا من فرشهم، فيسمع من هنا باك، ومن هنا داع، ومن هنا تال، ومن هنا متوضىء، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته : عنـد الصبــاح يحمـد القـوم الســرى.
يا نفس قومي فقد نام الورى
إن تصنعي الخير فذوالعرش يرى
وأنت يا عين دعي عنك الكرى
عند الصباح يحمد القوم السرى
يا قوام الليل اشفعوا في النوام، يا أحياء القلوب ترحموا على الأموات، قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل ؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم. وقيل للحسن: قد أعجزنا قيام الليل ؟ قال: قيدتكم خطاياكم، وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك، قال الحسن: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
قال بعض السلف: أذنبت ذنبا فحرمت به قيام الليل ستة أشهر. ما يؤهل الملوك للخلوة بهم إلا من أخلص في ودهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل المخالفة فلا يؤهلونه. في بعض الآثار: إن جبريل عليه السلام ينادي كل ليلة أقم فلانا وأنم فلانا.
قام بعض الصالحين في ليلة باردة وعليه ثياب،رثة، فضربه البرد فبكى، فهتف به هاتف أقمناك وأنمناهم ثم تبكي علينا!
يا حسنهم والليل قد جنهم
ونورهم يفوق نور الأنجم
ترنموا بالذكر في ليلهم
فعيشهم قد طاب بالترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغت
دموعهم كلؤلؤ منظم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت
وخلع الغفران خير القسم
الليل منهل يرده أهل الإرادة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون، قد علم كل أناس مشربهم، فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلح في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه، قال النبي r لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) مرضت رابعة مرة، فصارت تصلي وردها بالنهار فعوفيت وقد ألفت ذلك وانقطع عنها قيام الليل، فرأت ذات ليلة في نومها كأنها أدخلت إلى روضة خضراء عظيمة، وفتح لها فيها باب دار فسطع منها نور، حتى كاد يخطف بصرها فخرج منها،وصفاء كأن وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم مجامر، فقالت لهم امرأة كانت مع رابعة: أين تريدون ؟ قالوا: نريد فلانا قتل شهيدا في البحر فنجمره، فقالت لهم: أفلا تجمرون هذه المرأة ـ تعني رابعة ـ فنظروا إليها وقالوا: قد كان لها حظ في ذلك فتركته، فالتفتت تلك المرأة إلى رابعة وأنشدت:
صلاتك نور والعباد رقود
ونومك ضد للصلاة عنيد
كان بعض العلماء يقوم السحر، فنام عن ذلك ليالي فرأى في منامه رجلين وقفا عليه، وقال أحدهما للآخر: هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك، يا من كان له قلب فانقلب! يا من كان له وقت مع الله فذهب! قيام السحر يستوحش لك، صيام النهار يسائل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على الجهر.
تغير تموعنا بصحبة غيرنا
وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا
وأقسمتموا أن لا تحولوا عن الهوى
فحلتم عن العهد القديم وما حلنا
ليالي كنا نستقي من وصالكم
وقلبي إلى تلك الليالي قد حنا
قيل للنبي r: إن فلانا نام حتى أصبح ؟ فقال: (بال الشيطان في أذنه)،كان سري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل ماذا فات من فاته خير الليل؟ لقد حصل أهل الغفلة والنوم على الحرمان والويل.
كان بعض السلف يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال له: قم فصل، ثم قال له: أما علمت أن مفاتح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها، هم خزانها، وكان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال: ما لك قصرت في الخطبة؟ أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة: قام الخاطب إلى خطبته. ورأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها: زوجيني نفسك قالت: أخطبني إلى ربي، وأمهرني، قال: ما مهرك ؟ قالت: طول التهجد.
نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء وقالت: يا أبا سليمان تنام وأنا أربىّ لك في الخدور من خمسمائة عام!. واشترى بعضهم من الله تعالى حوراء بصداق ثلاثين ختمة، فنام ليلة قبل أن يكمل الثلاثين فرآها في منامه تقول له:
أتخطب مثلي وعني تنام
ونوم المحبين عني حرام
لأنا خلقنا لكل امرىء
كثير الصلاة براه الصيام
كان النبي r يطرق باب فاطمة وعلي ويقول: (ألا تصليان) وفي الحديث: (إذا استيقظ الرجل وأيقظ أهله فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات)
كانت امرأة حبيب توقظه بالليل وتقول ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
يا راقد الليل كم ترقد
قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته
وردا إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله
لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لأولي الألباب أهل التقى
قنطرة العرض لكم موعد
المجلس الثاني في يوم عاشوراء
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء، فقال: ما رأيت رسول الله r صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ وهذا الشهر ـ يعني رمضان) يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، وصومه لفضله كان معروفا بين الأنبياء عليهم السلام، وقد صامه نوح وموسى عليهما السلام كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وروي عن إبراهيم الهجري، عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: (يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم) خرجه بقي بن مخلد في مسنده. وقد كان أهل الكتاب يصومونه وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه، قال دلهم بن صالح: قلت لعكرمة: عاشوراء ما أمره ؟ قال: أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في صدورهم، فسألوا ما توبتهم ؟ قيل: صوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم.
وكان للنبي r في صيامه أربع حالات:
الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي r يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه، فترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء أفطره) وفي رواية للبخاري وقال رسول الله r: (من شاء فليصمه ومن شاء أفطر).
الحالة الثانية: أن النبي r لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه، وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصوّمونه أطفالهم، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم رسول الله r المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله r: (ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله r: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله r وأمر بصيامه) وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي r بأناس من اليهود قد صاموا عاشوراء فقال: (ما هذا من الصوم ؟ ! قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله عز وجل موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عز وجل، فقال النبي r: (أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم، فأمر أصحابه بالصوم).وفي (الصحيحين) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي r أمر رجلا من أسلم: أن أذن في الناس: (من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء (وفيهما أيضا) عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله r غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها، حتى يكون عند الإفطار. وفي رواية: فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم، وفي الباب أحاديث كثيرة جدا. وخرج الطبراني بإسناد فيه جهالة أن النبي r كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة، فيتفل في أفواههم ويقول لأمهاتهم: لا ترضعوهم إلى الليل وكان ريقه r يجزئهم .
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة متأكدة ؟ على قولين مشهورين، ومذهب أبي حنيفة: أنه كان واجبا حينئذ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وأبي بكر الأثرم. وقال الشافعي رحمه الله بل كان متأكد الاستحباب فقط وهو قول كثير من أصحابنا وغيرهم.
الحالة الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي r أمر الصحابة بصيام يوم عاشوراء وتأكيده فيه، وقد سبق حديث عائشة في ذلك وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صام النبي r عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك ذلك. وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وفي رواية لمسلم: إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله r صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان قال رسول الله r: (إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) وفي رواية له أيضا: (فمن أحب منكم أن يومه فليصمه، ومن كره فليدعه) وفي الصحيحين أيضا عن معاوية قال: سمعت رسول الله r يقول: (هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر) وفي رواية لمسلم التصريح برفع آخره وفي رواية للنسائي أن آخره مدرج من قول معاوية وليس بمرفوع، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال في يوم عاشوراء: هو يوم كان رسول الله r يصومه قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل شهر رمضان ترك وفي رواية (أنه تركه) وفيه أيضا: عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله r يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا عنه ولم يتعاهدنا عنده.
وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث قيس بن سعد قال: أمرنا رسول الله r بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا) وفي رواية: ونحن نفعله. فهذه الأحاديث كلها تدل على أن النبي r لم يجدد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان، بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه، فإن كان أمره r بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب، فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الاستحباب أم لا ؟ وفيه اختلاف مشهور بين العلماء رضي الله عنهم، وإن كان أمره للاستحباب المؤكد. فقد قيل: إنه زال التأكيد وبقي أصل الاستحباب، ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله. وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على أن أصل استحباب صيامه زال. وقال سعيد بن المسيب: لم يصم رسول الله r عاشوراء. وروي عنه عن سعد بن أبي وقاص والمرسل أصح. قاله الدارقطني.وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد.
وممن روي عنه صيامه من الصحابة عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وأبو موسى وقيس بن سعد وابن عباس وغيرهم، ويدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس رضي الله عنهما: لم أر رسول الله r يصوم يوما يتحرى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان. وابن عباس إنما صحب النبي r بآخرة وإنما عقل منه r من آخر أمره، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي r عن صيام عاشوراء ؟ فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) وإنما سأله عن التطوع بصيامه، فإنه سأله أيضا عن صيام يوم عرفة وصيام الدهر، وصيام يوم وفطر يوم، وصيام يوم،وفطر يومين ، فعلم أنه إنما سأله عن صيام التطوع. وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي r لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر) وخرجه أبوداود إلا أن عنده عن بعض أزواج النبي r غير مسماة.
الحالة الرابعة: أن النبي r عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه. ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله r عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال رسول الله r: (فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع) قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله r. وفي رواية له أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر) يعني عاشوراء. وخرجه الطبراني ولفظه: (إن عشت إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني عاشوراء). وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي r قال: (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما وبعده يوما) وجاء في رواية: (أوبعده) فإما أن تكون (أو) للتخيير، أو يكون شكا من الراوي، هل قال قبله أو بعده. وروي هذا الحديث بلفظ آخر وهو: (لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله ويوم بعده) يعني عاشوراء. وفي رواية أخرى: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، ولآمرن بصيام يوم قبله ويوم بعده) يعني عاشوراء أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني.
وقد صح هذا عن ابن عباس من قوله من رواية ابن جريج قال: أخبرنا عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر. قال الإمام أحمد: أنا أذهب إليه. وروي عن ابن عباس: أنه صام التاسع والعاشر، وعلل بخشية فوات عاشوراء. وروى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه كان يصوم عاشوراء في السفر ويوالي بين اليومين خشية فواته. وكذلك روي عن أبي إسحاق أنه صام يوم عاشوراء ويوما قبله ويوما بعده وقال: إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني. وروي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطا. وروي عن ابن عباس والضحاك أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرم. قال ابن سيرين: كانوا لا يختلفون أنه اليوم العاشر إلا ابن عباس. فإنه قال: إنه التاسع. وقال الإمام أحمد في رواية الميموني: لا أدري هو التاسع أو العاشر ولكن نصومهما، فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيام احتياطا. وابن سيرين يقول ذلك وممن رأى صيام التاسع والعاشر: الشافعي رضي الله عنه وأحمد وإسحاق وكره أبو حنيفة إفراد العاشر بالصوم.
وروى الطبراني من حديث ابن أبي الزناد، عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس: إنما كان يوما تستر فيه الكعبة، وتقلس فيه الحبشة عند النبي r. وكان يدور في السنة، فكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه، فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه، وهذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس هو في المحرم، بل يحسب بحساب السنة الشمسية، كحساب أهل الكتاب. وهذا خلاف ما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي r كان يعد من هلال المحرم ثم يصبح يوم التاسع صائما. وابن أبي الزناد لا يعتمد على ما ينفرد به، وقد جعل الحديث كله عن زيد بن ثابت وآخره لا يصلح أن يكون من قول زيد، فلعله من قول من دونه، والله أعلم. وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر، منهم ابن عباس وأبو إسحاق والزهري. وقال: رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت. ونص أحمد على أن يصام عاشوراء في السفر. وروى عبد الرزاق في كتابه عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن معبد القرشي قال: كان النبي r بقُديد، فأتاه رجل فقال له النبي r: أطعمت اليوم شيئا ليوم عاشوراء ؟ قال لا إلا أني شربت ماء، قال: فلا تطعم شيئا حتى تغرب الشمس، وأمر من وراءك أن يصوموا هذا اليوم) ولعل المأمور كان من أهل قُديد. وروى بإسناده عن طاووس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر ولا يصومه في السفر.
ذكر صيام الوحش والهوام في عاشوراء
ومن أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصوم الوحش والهوام، وقد روي مرفوعا: (أن الصرد أول طير صام عاشوراء) خرجه الخطيب في تاريخه، وإسناده غريب. وقد روى ذلك عن أبي هريرة، وروي عن فتح بن شخرف قال: كنت أفت للنمل الخبز كل يوم، فلما كان عاشوراء لم يأكلوه، وروي عن القادر بالله الخليفة العباسي أنه جرى له مثل ذلك، وأنه عجب منه فسأل أبا الحسن القزويني الزاهد فذكر له أن يوم عاشوراء تصومه النمل. وروى أبو موسى المديني بإسناده عن قيس بن عباد قال: بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء. وبإسناد له عن رجل أتى البادية يوم عاشوراء فرأى قوما يذبحون ذبائح فسألهم عن ذلك فأخبروه أن الوحوش صائمة وقالوا: اذهب بنا نرك فذهبوا به إلى روضة فأوقفوه قال: فلما كان بعد العصر، جاءت الوحوش من كل وجه فأحاطت بالروضة رافعة رؤوسها إلى السماء ليس شيء منها يأكل حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعا فأكلت.
وبإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: بين الهند والصين أرض كان بها بطة من نحاس على عمود من نحاس، فإذا كان يوم عاشوراء مدت منقارها فيفيض من منقارها ماء يكفيهم لزروعهم ومواشيهم إلى العام المقبل. ورئي بعض العلماء المتقدمين في المنام فسئل عن حاله فقال: غفر لي بصيام عاشوراء ستين سنة. وفي رواية: (ويوم قبله ويوم بعده). وذكر عبد الوهاب الخفاف في كتاب الصيام: قال سعيد، قال قتادة: كان يقال: صوم عاشوراء كفارة لما ضيع الرجل من زكاة ماله. وقد روي: إن عاشوراء كان يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأنه كان عيدا لهم. ويروى أن موسى عليه السلام كان يلبس فيه الكتان ويكتحل فيه بالإثمد، وكان اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد رسول الله r يتخذونه عيدا وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك وكانوا يسترون فيه الكعبة.
ولكن شرعنا ورد بخلاف ذلك، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود وتتخذه عيدا، فقال رسول الله r: (صوموه أنتم)، وفي رواية لمسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم فقال رسول الله r: (فصوموه أنتم) وخرجه النسائي وابن حبان وعندهما فقال رسول الله r: (خالفوهم فصوموه). وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا وعلى استحباب صيام أعياد المشركين، فإن الصوم ينافي اتخاذه عيدا، فيوافقون في صيامه مع صيام يوم آخر معه كما تقدم، فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضا، فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية. وعلى مثل هذا يحمل ما خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي r كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: (إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم) فإنه إذا صام اليومين معا خرج بذلك عن مشابهة اليهود والنصارى في تعظيم كل طائفة ليومها منفردا، وصيامه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيدا، ويجمع بذلك بين هذا الحديث وبين حديث النهي عن صيام يوم السبت.
وكل ما رُوي في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء والاختضاب والاغتسال فيه فموضوع لا يصح. وأما الصدقة فيه فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من صام عاشوراء فكأنما صام السنة، ومن تصدق فيه كان كصدقة السنة. أخرجه أبو موسى المديني.
وأما التوسعة فيه على العيال فقال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء: من وسع على أهله يوم عاشوراء) فلم يره شيئا، وقال ابن منصور: قلت لأحمد: هل سمعت في الحديث: (من وسع على أهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة) فقال: نعم رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن محمد عن المنتشر وكان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه: أنه من وسع على عياله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته. قال ابن عيينة: جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا. وقول حرب أن أحمد لم يره شيئا إنما أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي r، فإنه لا يصح إسناده وقد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء. وممن قال ذلك محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وقال العقبلي: هو غير محفوظ وقد روي عن عمر من قوله وفي إسناده مجهول لا يعرف.
ذكر الرافضة في اتخاذ عاشوراء مأتما
وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه: فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم؟.
ومن فضائل يوم عاشوراء: أنه يوم تاب الله فيه على قوم، وقد سبق حديث علي الذي خرجه الترمذي أن النبي r قال لرجل: (إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم، فإن فيه يوما تاب الله على قوم، ويتوب فيه على آخرين)
وقد صح من حديث أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال: سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء: فقال المحرم شهر الله الأصم: فيه يوم تيب فيه على آدم فإن استطعت أن لا يمر بك إلا صمته كذا روي عن شعبة عن أبي إسحاق، ورواه إسرائيل عن أبي إسحاق ولفظه قال: إن قوما أذنبوا فتابوا فيه فتيب عليهم، فإن استطعت أن لا يمر بك إلا وأنت صائم فافعل). ورواه يونس عن أبي إسحاق ولفظه قال: إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة تكتب فيه الكتب، ويؤرخ فيه التاريخ، وفيه تضرب الورق، وفيه يوم تاب فيه قوم فتاب الله عليهم، فلا يمر بك إلا صمته) يعني يوم عاشوراء وروى أبو موسى المديني من حديث أبي موسى مرفوعا: هذا يوم تاب الله فيه على قوم فاجعلوه صلاة وصوما) يعني يوم عاشوراء وقال: حسن غريب، وليس كما قال وروى بإسناده عن علي قال: يوم عاشوراء هو اليوم الذي تيب فيه على قوم يونس.
وعن ابن عباس قال: هو اليوم الذي تيب فيه على آدم، وعن وهب: إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أن مر قومك يتوبوا إلي في أول عشر المحرم، فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إليّ حتى أغفر لهم. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن عكرمة قال: هو يوم تاب الله فيه على آدم يوم عاشوراء. وروى عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة قال: كنا نتحدث اليوم الذي تيب فيه على آدم يوم عاشوراء، وهبط فيه آدم إلى الأرض يوم عاشوراء، وقوله r في حديث علي ويتوب فيه على آخرين، حث للناس على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء، وترجيه لقبول التوبة، فمن تاب فيه إلى الله عز وجل من ذنوبه تاب الله عليه كما تاب فيه على من قبلهم.
ذكر آدم عليه السلام فضله وإخراجه وذريته وأن عاشوراء هو اليوم الذي تاب فيه الله عليه
وقد قال الله تعالى عن آدم: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) وأخبر عنه وعن زوجه أنهما قالا: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار كتابا قال فيه: قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وقولوا كما قال نوح: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) وقولوا كما قال موسى: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) وقولوا كما قال ذو النون: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
واعتراف المذنب بذنبه مع الندم عليه توبة مقبولة، قال الله عز وجل: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم). قال النبي r: (إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه). وفي دعاء الاستفتاح الذي كان النبي r يستفتح به: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). وفي الدعاء الذي علمه النبي r للصديق أن يقوله في صلاته: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) وفي حديث شداد بن أوس عن النبي r: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)
الاعتراف يمحو الاقتراف كما قيل:
فإن اعتراف المرء يمحو اقترافه
كما أن إنكار الذنوب ذنوب
لما أهبط آدم من الجنة بكى على تلك المعاهد فيما يروى ثلاثمائة عام وحق له ذلك كان في دار لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى فلما نزل إلى الأرض أصابه ذلك كله فكان إذا رأى جبريل عليه السلام يتذكر برؤيته تلك المعاهد، فيشتد بكاؤه حتى يبكي جبريل عليه السلام لبكائه، ويقول له: ما هذا البكاء يا آدم فيقول: وكيف لا أبكي وقد أخرجت من دار النعمة إلى دار البؤس، فقال له بعض ولده: لقد آذيت أهل الأرض ببكائك فقال إنما أبكي على أصوات الملائكة حول العرش. وفي رواية قال: إنما أبكي على جوار ربي في دار تربتها طيبة، أسمع فيها أصوات الملائكة. وفي رواية قال: أبكي على دار لو رأيتها لزهقت نفسك شوقا إليها. وروي أنه قال لولده: كنا نسلا من نسل السماء، خلقنا كخلقهم وغذينا بغذائهم، فسبانا عدونا إبليس، فليس لنا فرحة ولا راحة إلا الهم والعناء حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها.
فحي على جنات عدن فإنها
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم
لما التقى آدم وموسى عليهما السلام، عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه وذريته من الجنة، فاحتج آدم بالقدر السابق، والاحتجاج بالقدر على المصائب حسن، كما قال النبي r: (إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
والله لولا سابق الأقدار
لم تبعد قط داركم عن داري
من قبل النأي جرية المقدار
هل يمحوالعبد ما قضاه الباري
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له، وبتعليمه أسماء كل شيء، وإخباره الملائكة بها وهم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه، حتى أقروا بالعجز عن علمه، وأقروا له بالفضل، وأسكن هو وزوجته الجنة، ظهر الحسد من إبليس وسعى في الأذى، وما زالت الفضائل إذا ظهرت تحسد:
لا مات حسادك بل خلدوا
حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسودا على نعمة
فإنما الكامل من يحسد
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول إنما أهلك إبليس العجب بنفسه ولذلك قال أنا خير منه وإنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم واحترق إبليس:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
قال بعض السلف: آدم أخرج من الجنة بذنب واحد وأنتم تعلمون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة:
لا مات حسادك بل خلدوا
حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسودا على نعمة
فإنما الكامل من يحسد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى
درج الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما
منها إلى الدنيا بذنب واحد
احذروا هذا العدو الذي أخرج أباكم من الجنة، فإنه ساع في منعكم من العود إليها بكل سبيل، والعداوة بينكم وبينه قديمة، فإنه ما أخرج من الجنة وطرد عن الخدمة إلا بسبب تكبره على أبيكم، وامتناعه من السجود له لما أمر به وقد أيس من الرحمة وأيس من العود إلى الجنة، وتحقق خلوده في النار فهو يجتهد على أن يخلد معه في النار بني آدم بتحسين الشرك، فإن عجز قنع بما دونه من الفسوق والعصيان، وقد حذركم مولاكم منه، وقد أعذر من أنذر، فخذوا حذركم: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة)
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه وعرف الشيطان ثم أطاعه: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا):
رعى الله من نهوى وإن كان ما
رعي حفظنا له العهد القديم فضيعا
وصاحبت قوما كنت أنهاك عنهم
وحقك ما أبقيت للصلح موضعا
لما أهبط آدم إلى الأرض وعد العود إلى الجنة، هو ومن آمن من ذريته واتبع الرسل: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فليبشر المؤمنون بالجنة هي إقطاعهم وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل إلى محمد r: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) إنما خرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة، فأما من تاب وآمن فالإقطاع مردود عليه، المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس والهوى، فإذا انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي كانوا فيه في صلب آدم، تكفل الله للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة.
وصلت إليكم معشر الأمة رسالة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد r، قال رسول الله r: (رأيت ليلة أسري بي إبراهيم فقال: يا محمد أقرىء أمتك السلام وأخبرهم: أن الجنة عذبة الماء، طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وخرج النسائي والترمذي عن جابر رضي الله عنه، عن النبي r: من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس له بكل واحدة شجرة في الجنة) وخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا، وخرجه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة مرفوعا: (من قال سبحان الله العظيم بني له برج في الجنة) وروي موقوفا وعن الحسن قال: الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان، يغرسون ويبنون فربما أمسكوا، فيقال لهم: قد أمسكتم ؟ فيقولون: حتى تأتينا النفقات. وقال الحسن: فأتعبوهم بأبي أنتم وأمي على العمل وقال بعض السلف: بلغني أن دور الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك عن الذكر أمسكوا عن البناء فيقال لهم: فيقولون: حتى تأتينا نفقة.
أرض الجنة اليوم قيعان، والأعمال الصالحة لها عمران، بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان، فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان.
رأى بعض الصالحين في منامه قائلا يقول له: قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك، واسمها دار السرور، فأبشر وقد أمرنا بتنجيدها وتزيينها والفراغ منها إلى سبعة أيام، فلما كان بعد سبعة أيام مات، فرؤي في المنام فقال: أدخلت دار السرور فلا تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع، رأى بعضهم كأنه أدخل الجنة وعرض عليه منازله وأزواجه، فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه وقالوا له: بالله حسن عملك، فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا. العاملون اليوم يسلفون رؤوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين إلى أجل يوم المزيد في سوق الجنة فإذا حل الأجل دخلوا السوق فحملوا منه ما شاؤوا بغير نقد ثمن على ما قد سلف من تعجيل رأس مال السلف، لكن بغير مكيال ولا ميزان.
فيا من عزم أن يسلف اليوم إلى ذلك الموسم، عجل بتقبيض رأس المال، فإن تأخير التقبيض يفسد العقد، فلله ذاك السوق الذي هو موعد المزيد لوفد الحب لوكنت منهم فما شئت منه، خذ بلا ثمن له فقد أسلف التجار فيه وأسلموا، في الحديث: (إن الجنة تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر حريري، وإستبرقي وسندسي ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي، وأباريقي وخمري وعسلي ولبني، فأتني بأهلي وبما وعدتني). وفي الحديث أيضا: من سأل الله الجنة شفعت له الجنة إلى ربها وقالت: اللهم أدخله الجنة) وفي الحديث أيضا: (إن الجنة تفتح في كل سحر ويقال لها: ازدادي طيبا لأهلك، فتزداد طيبا، فذلك البرد الذي يجده الناس في السحر).
قلوب العارفين تستنشق أحيانا نسيم الجنة، قال أنس بن النضر يوم أحد: واها لريح الجنة، والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد، ثم تقدم فقاتل حتى قتل:
تمر الصبا صبحا بساكن ذي
الغضا ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما
هوى كل نفس أين حل حبيبها
كم لله من لطف وحكمه في إهباط آدم إلى الأرض، لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين واجتهاد العابدين المجتهدين، ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين، يا آدم! إن كنت أهبطت من دار القرب: (فإني قريب أجيب دعوة الداع) إن كان حصل لك بالإخراج من الجنة كسر، فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي،إن كان حصل لك بالإخراج كسر، فانا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إن كان فاتك في السماء سماع زجل المسبحين، فقد تعوضت في الأرض بسماع أنين المذنبين. أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين زجل المسبحين ربما يشوبه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم، سبحان من إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا، وإذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده وعاد عليه وبالاً، لقن آدم حجته وألقى إليه ما تقبل به توبته: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) وطرد إبليس بعد طول خدمته فصار عمله هباء منثورا: (قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) إذا وضع عدله على عبد لم تبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبد لم تبق له سيئة.
يعطي ويمنع من يشاء كما يشا
وهباته ليست تقارنها الرشا
لما ظهر فضل آدم على الخلائق بالعلم، وكان العلم لا يكمل بدون العمل بمقتضاه، والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، وإنما دار نعيم ومشاهدة، قيل له: يا آدم اهبط إلى رباط الجهاد، وصابر جنود الهوى بالجد والاجتهاد، واذرف دموع الأسف على البعاد، فكأنك بالعيش الماضي، وقد عاد على أكمل من ذلك الوجه المعتاد:
عودوا إلى الوصل عودوا
فالهجر صعب شديد
لو ذاق طعم الفراق رضوى
لكاد من وجده يميد
قد حملوني عذاب شوق
يعجز عن حمله الحديد
قلت وقلبي أسير وجد
متيم في الجفا عميد
أنتم لنا في الهوى موال
ونحن في أسركم عبيد
المجلس الثالث في قدوم الحاج
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: (من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) مباني الإسلام الخمس، كل واحد منها يكفر الذنوب والخطايا ويهدمها، ولا إله إلا الله لا تبقي ذنبا ولا يسبقها عمل، والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار، والحج الذي لا رفث فيه ولا فسوق يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن طائفة من العلماء وتأولوا قول الله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) بأن من قضى نسكه ورجع منه، فإن آثامه تسقط عنه إذا اتقى الله عز وجل في أداء نسكه، وسواء نفر في اليوم الأول من يومي النفر متعجلا أو متأخرا إلى اليوم الثاني. وفي مسند أبي يعلى الموصلي عن النبي r قال: (من قضى نسكه، وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) وفي الصحيحين عن النبي r قال: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وفي صحيح مسلم عنه r قال: (الحج يهدم ما قبله).
فالحج المبرور: يكفر السيئات ويوجب دخول الجنات، وقد روي أنه r سئل عن بر الحج ؟ فقال: (إطعام الطعام وطيب الكلام) فالحج المبرور ما اجتمع فيه أعمال البر مع اجتناب أعمال الإثم، فما دعا الحاج لنفسه ولا دعا له غيره بأحسن من الدعاء بأن يكون حجه مبرورا، ولهذا يشرع للحاج إذا فرغ من أعمال حجه وشرع في التحلل من إحرامه برمي جمرة العقبة يوم النحر أن يقول: (اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا). وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر من قولهما، وروي عنهما مرفوعا، وكذلك يدعى للقادم من الحج بأن يجعل الله حجه مبرورا. وفي الأثر: أن آدم عليه السلام لما حج البيت وقضى نسكه أتته الملائكة فقالوا له: يا آدم بر حجك لقد حججنا هذا البيت بألفي عام وكذلك كان السلف يدعون لمن رجع من حجه، لما حج خالد الحذاء ورجع قال له أبوقلابة: بر العمل معناه جعل الله عملك مبرورا.
علامات الحج المبرور
للحج المبرور علامات لا تخفى، قيل للحسن: الحج المبرور جزاؤه الجنة ؟ قال: آية ذلك: أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وقيل له: جزاء الحج المغفرة ؟ قال: آية ذلك: أن يدع سيء ما كان عليه من العمل. الحج المبرور مثل حج إبراهيم بن أدهم مع رفيقه الرجل الصالح الذي صحبه من بلخ، فرجع من حجه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة وخرج عن ملكه وماله وأهله وعشيرته وبلاده، واختار بلاد الغربة وقنع بالأكل من عمل يده، إما من الحصاد أومن نظارة البساتين، حج مرة مع جماعة من أصحابه فشرط عليهم في ابتداء السفر أن لا يتكلم أحدهم إلا لله تعالى، ولا ينظر إلا له، فلما وصلوا وطافوا بالبيت رأوا جماعة من أهل خراسان في الطواف معهم غلام جميل قد فتن الناس بالنظر إليه، فجعل إبراهيم يسارقه النظر ويبكي، فقال له بعض أصحابه: يا أبا إسحاق ألم تقل لنا: لا ننظر إلا لله تعالى ؟ فقال: ويحك هذا ولدي وهؤلاء خدمي وحشمي:
هجرت الخلق طرا في هواك
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلوقطعتني في الحب إربا
لما حن الفؤاد إلى سواكا
قال بعض السلف: استلام الحجر الأسود هو أن لا يعود إلى معصية يشير إلى ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله وقبّل يمينه. وقال عكرمة: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله r فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله. وورد في حديث: (أن الله لما استخرج من ظهر آدم ذريته وأخذ عليهم الميثاق كتب ذلك العهد في رق، ثم استودعه هذا الحجر فمن ثم يقول: (من يستلمه وفاء بعهدك فمستلم الحجر يبايع الله على اجتناب معاصيه والقيام بحقوقه) (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) يا معاهدينا على التوبة بيننا وبينكم عهود أكيدة أولها: يوم (ألست بربكم) فقلتم بلى، والمقصود الأعظم من هذا العهد: أن لا تعبدوا إلا إياه، وتمام العمل بمقتضاه: أن اتقوا الله حق ت